لما كانت النفس من الأعداء الملازمين للإنسان في ليله ونهاره، وفي حله وترحاله، ولما كانت حاضرة في كل أحواله، تزين له الباطل، وتدعوه إلى الدعة والكسل، وتسعى لإيقاعه في الزلل...لزم أهل العقول والنهى محاسبتها، لإيقافها عند حدها.
ومنعها عن زيغها، اتباعًا للتوجيه الإلهي الكريم، والنداء الرباني العظيم: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ}(الحشر:18)، أي حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا، وانظروا ماذا ادخرتم لأنفسكم من الأعمال الصالحة ليوم معادكم وعرضكم على ربكم، واتقوا الله تأكيد ثان، واعلموا أنه عالم بجميع أعمالكم وأحوالكم، لا تخفى عليه منكم خافية، ولا يغيب من أموركم جليل ولا حقير.
وهذا نبينا صلى الله عليه وسلم يحث على محاسبة النفس فيقول: (الكيس من دان نفسه، وعمل لما بعد الموت، والعاجز من أتبع نفسه هواها، وتمنى على الله) رواه البيهقي والترمذي وابن ماجه.
وقد ذكّر الصحابة الكرام بمحاسبة النفس، ودعوا إلى التأهب للعرض الأكبر، فهذا عمر الفاروق رضي الله عنه يقول: "حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا، وزنوا أنفسكم قبل أن توزنوا، وتأهبوا للعرض الأكبر على من لا تخفى عليه أعمالكم" مذكرًا بقول الله عز وجل: {يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ} (الحاقة:18)، أي تعرضون على عالم السر والنجوى، الذي لا يخفى عليه شيء من أموركم بل هو عالم بالظواهر والسرائر والضمائر.
وكتب عمر بن الخطاب رضي الله عنه إلى بعض عماله: "حاسب نفسك في الرخاء قبل حساب الشدة، فإن من حاسب نفسه في الرخاء قبل حساب الشدة عاد أمره إلى الرضا والغبطة، ومن ألهته حياته، وشغله أهواؤه عاد أمره إلى الندامة والخسارة ".
فمحاسبة النفس أمر ضروري يعود بالنفع على صاحبه في الدنيا والآخرة، وهكذا كان هدي السلف الأبرار، والسابقين الأخيار، فهذا الحسن البصري يقول: "إن العبد لا يزال بخير ما كان له واعظ من نفسه، وكانت المحاسبة من همته".
وقال ميمون بن مهران: "لا يكون العبد تقيًا حتى يكون لنفسه أشد محاسبة من الشريك لشريكه"، ولهذا قيل: النفس كالشريك الخوان، إن لم تحاسبه ذهب بمالك.
وقال ميمون أيضا: "إن التقي أشد محاسبة لنفسه من سلطان عاص، ومن شريك شحيح".
وذكر الإمام أحمد عن وهب قال: مكتوب في حكمة آل داود: "حق على العاقل أن لا يغفل عن أربع ساعات: ساعة يناجي فيها ربه، وساعة يحاسب فيها نفسه، وساعة يخلو فيها مع إخوانه الذين يخبرونه بعيوبه ويصدقونه عن نفسه، وساعة يخلي فيها بين نفسه وبين لذاتها فيما يحل ويجمل، فإن في هذه الساعة عونا على تلك الساعات، وإجماما للقلوب".
وقال الحسن: المؤمن قوام على نفسه، يحاسب نفسه لله، وإنما خف الحساب يوم القيامة على قوم حاسبوا أنفسهم في الدنيا، وإنما شق الحساب يوم القيامة على قوم أخذوا هذا الأمر من غير محاسبة. إن المؤمن يفاجئه الشيء ويعجبه، فيقول: والله إني لأشتهيك، وإنك لمن حاجتي، ولكن والله ما من صلة إليك، هيهات هيهات، حيل بيني وبينك. ويفرط منه الشيء فيرجع إلى نفسه، فيقول: ما أردت إلى هذا؟ ما لي ولهذا؟ والله لا أعود إلى هذا أبدا، إن المؤمنين قوم أوقفهم القرآن وحال بينهم وبين هلكتهم، إن المؤمن أسير في الدنيا يسعى في فكاك رقبته، لا يأمن شيئا حتى يلقى الله، يعلم أنه مأخوذ عليه في سمعه وفي بصره، وفي لسانه، وفي جوارحه، مأخوذ عليه في ذلك كله.
وقال مالك بن دينار: رحم الله عبدا قال لنفسه: ألست صاحبة كذا؟ ألست صاحبة كذا؟ ثم ذمها، ثم خطمها، ثم ألزمها كتاب الله عز وجل، فكان لها قائدا.
ومحاسبة النفس نوعان
1- محاسبة النفس عند الهم والإرادة، قال الحسن رحمه الله: رحم الله عبدا وقف عند همه، فإن كان لله مضى، وإن كان لغيره تأخر.
2- محاسبة النفس بعد العمل، وهو ثلاثة أنواع:
أحدها: محاسبتها على طاعة قصرت فيها من حق الله تعالى، فلم توقعها على الوجه الذي ينبغي. وحق الله تعالى في الطاعة ستة أمور: الإخلاص في العمل، والنصيحة لله فيه، ومتابعة الرسول فيه، وشهود مشهد الإحسان فيه، وشهود منة الله عليه، وشهود تقصيره فيه بعد ذلك كله.
الثاني: أن يحاسب نفسه على كل عمل كان تركه خيرًا له من فعله.
الثالث: أن يحاسب نفسه على أمر مباح، أو معتاد: لم فعله؟ وهل أراد به الله والدار الآخرة؟ فيكون رابحا، أو أراد به الدنيا وعاجلها؟ فيخسر ذلك الربح ويفوته الظفر به.
فوائد المحاسبة
1- الإطلاع على عيوب النفس، فإذا اطلع على عيبها مقتها في ذات الله تعالى.
2- معرفة حق الله تعالى، ومن لم يعرف حق الله تعالى عليه فإن عبادته لا تكاد تجدي، وهي قليلة المنفعة جدا.
وقد قال الإمام أحمد: حدثنا حجاج حدثنا جرير بن حازم عن وهب قال: بلغني أن نبي الله موسى عليه السلام مر برجل يدعو ويتضرع، فقال: يارب ارحمه، فإني قد رحمته فأوحى الله تعالى إليه: لو دعاني حتى ينقطع قواه ما استجيب له حتى ينظر في حقي عليه.
فمن أنفع الأمور للقلب النظر في حق الله على العباد، فإن ذلك يورثه مقت نفسه، والإزراء عليها ويخلصه من العجب ورؤية العمل، ويفتح له باب الخضوع والذل والانكسار بين يدي ربه، واليأس من نفسه، وأن النجاة لا تحصل له إلا بعفو الله، ومغفرته ورحمته، فإن من حقه أن يطاع ولا يعصى، وأن يذكر فلا ينسى، وأن يشكر فلا يكفر.
فالذي ينبغي على المؤمن العاقل أن يحاسب النفس ويشارطها على حفظ جوارحه: العين، والأذن، والفم، واللسان، والفرج، واليد، والرجل، ثم مطالعتها والإشراف عليها ومراقبتها، فلا يهملها، فإنه إن أهملها لحظة رتعت في الخيانة ولا بد، فإن تمادى على الإهمال تمادت في الخيانة حتى تذهب رأس المال كله، فمتى أحس بالنقصان انتقل إلى المحاسبة، فحينئذ يتبين له حقيقة الربح والخسران، فإذا أحس بالخسران وتيقنه إستدرك منها ما يستدركه الشريك من شريكه: من الرجوع عليه بما مضى.
وما أحوجنا اليوم إلى المحاسبة، ونحن في زمن كثرت فيه دواعي الشهوات، وتعددت المغريات، وتنوعت الملهيات، فالأمر جد أيها الأخوة الكرام، فلا بد من الحزم والإقدام، وقبل الرحيل وفوات الأوان.
ومما يعين المرء على تلك المحاسبة: معرفته أنه كلما اجتهد فيها اليوم استراح منها غدا إذا صار الحساب إلى غيره، وكلما أهملها اليوم اشتد عليه الحساب غدا.
إضافة إلى معرفته أن ربح هذه التجارة سكنى الفردوس، والنظر إلى وجه الرب سبحانه، وصحبة النبيين والأخيار، وخسارتها: دخول النار والحجاب عن المولى سبحانه، مع من حجب من الأشقياء والفجار.
وفي الختام ندعو الله أن يحفظنا وإياكم من الزيغ واتباع الهوى، وأن يزكي أنفسنا بطاعته، فهو وليها ومولاها، والحمد لله رب العالمين.
المصدر: موقع الشبكة الإسلامية